فلسطين/اعتدال قنيطة
((حمل رأس ابن عمه الذي فصل عن جسده وهو لا يدري، كان همه الوحيد إنقاذ الجرحى وإخراج جثث الشهداء الذين ارتقوا إلى العلا جراء القصف الصهيوني الغاشم على مدينة خانيونس)). مشهد مرعب لكنه تكرر أكثر من مرة بصورة أو بأخرى مع ضباط الإسعاف الفلسطينيين أثناء الاجتياحات الصهيونية المتكررة على الأراضي الفلسطينية حتى استحقوا حقاً وصف ((شهداء مع وقف التنفيذ))، خاصة وأن شارة الهلال الأحمر لم تحُلْ إنسانيتها دون استهداف رصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي لحامليها، تماماً كما لم تحُلْ النصوص التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في اتفاقية جنيف الرابعة لحماية المدنيين وقت الحرب. فالحكومة الصهيونية بعنجهيتها وسياستها المتعجرفة، تحدت العالم كله بتجاهلها لكل ما نصت عليه العهود والمواثيق الدولية، غير مكتفية بإلحاق الأذى بالمدنيين الفلسطينيين العزّل الذين يطالهم رصاص قوات احتلالها وهم في منازلهم، بل عكفت منذ بداية انتفاضة الأقصى على تصعيد وتيرة انتهاكاتها وممارساتها اللاإنسانية مستهدفة سيارات الإسعاف الفلسطيني والعاملين في طواقم الإسعاف الطبي.
طواقم الإسعاف تحتاج إلى إسعاف
تعددت أشكال الاعتداءات الصهيونية ضد طواقم الإسعاف من قصف لسيارات الإسعاف، إلى إطلاق النار والقذائف على العاملين، إلى خطف الجرحى من بين أيديهم، بل وارتقى عدد منهم شهداء وجرحى.
وحول أشكال هذه الاعتداءات التقينا في البداية بالدكتور محمد البردويل؛ مدير الإسعاف والطوارئ في قطاع غزة، ليحدثنا عنها فقال: لقد أصبحنا نعاني نقصاً حاداً في عدد سيارات الإسعاف، وهو في تدن مستمر حيث بلغ عددها 26 سيارة عاملة فقط، بعد أن تعطلت 14 سيارة عن العمل خلال الأشهر الثمانية الأخيرة، إما نتيجة تعرضها للقصف من قبل جيش الاحتلال، أو لعدم إمكانية إجراء صيانة لبعضها بسبب انتهاء عمرها الافتراضي. أما عن عدد ضباط الإسعاف فهو لا يكفي، حيث لا يتجاوز عددهم 110 ضباط فقط.
وأكد البردويل أن المخاطر التي تواجه العاملين في الإسعاف كثيرة وأهمها: الاحتلال الصهيوني الذي لا يحترم الشارة الدولية؛ بل يتعمد التعدي عليها بقصف سيارات الإسعاف أو سرقة المصابين الذين بداخلها، أو إطلاق النار على ضباط الإسعاف ليربكهم ويدبّ الرعب في قلوبهم، بل إنه عمد إلى هذه السياسة منذ اليوم الثاني لانتفاضة الأقصى، حيث قتل الشهيد بسام البلبيسي سائق سيارة الإسعاف أثناء محاولته إنقاذ الطفل محمد الدرة ووالده. ومازالت عمليات استهداف ضباط الإسعاف مستمرة حيث قتل الاحتلال قبل أيام قلائل اثنين من ضباط الإسعاف أثناء محاولتهما إنقاذ أحد الجرحى الذين أصيبوا جراء قصف الاحتلال لسيارتهم.
وتطرق البردويل إلى صعوبة التنسيق مع العدو عند محاولة ضباط الإسعاف إنقاذ مصاب سقط في أرض تمنع سيارات الإسعاف الفلسطينية من الوصول إليها، مثل مناطق الحدود أو المناطق القريبة من المستوطنات الصهيونية. فأحياناً يضطرون إلى الانتظار أكثر من ثلاث ساعات حتى يُسمح لهم بالدخول. وفي أحيان كثيرة يضطر طاقم الإسعاف إلى المخاطرة بحياتهم ودخول هذه المناطق لإنقاذ هذا المصاب. وقال: إننا ننصحهم بعدم المخاطرة بأرواحهم، لأنه في عام 2005 فقط أصيب 37 ضابط إسعاف من جمعية الهلال الأحمر، كما تعرضت ستّ سيارات إسعاف إلى تدمير كامل من قبل جيش الاحتلال، بالإضافة إلى 17 سيارة إلى تدمير جزئي.
وأشار البردويل إلى أنه إذا استمر الحصار المفروض على شعبنا فستتوقف 18 سيارة إسعاف أخرى عن العمل، لقلّة الصيانة وانتهاء عمرها الافتراضي، وبالتالي لن يبقى إلا ثماني سيارات فقط. وللقارئ أن يتخيل حجم المأساة الصحية التي ستعاني منها الأراضي الفلسطينية عندئذ.
تحديت الدبابة
وللوقوف على تضحيات هؤلاء الجنود المجهولين التقينا بضابط الإسعاف محمود السرحي، الذي أصيب أكثر من مرة خلال انتفاضة الأقصى أثناء محاولته إنقاذ بعض المصابين. وقد بدا الإرهاق على جسده النحيل والهالات السوداء أحاطت بعينيه اللتين تبدوان وكأنهما لم تذوقا طعم النوم منذ أيام، فقال: ((لا شك أن عمل ضابط الإسعاف مُتعِب وشاق، لكنه من أنبل الأعمال التي يمكن للشاب أن يخدم بها وطنه والمدافعين عنه، كما أنه خدمة إنسانية وطنية وكانت لدي رغبة كبيرة في أن أخدم وطني، ولدي القدرة والطاقة الكامنة لذلك، فقد التحقت بدائرة الإسعاف والطوارئ، خاصة وأنني بفضل الله أمتلك الجرأة الكافية والشجاعة لهذا العمل)).
أضاف السرحي ((في البداية لا شك أنه ينتاب أحدنا الرهبة والخوف، خاصة عندما يحمل أشلاء أحد الشهداء، وتنتابه كذلك الكوابيس في الليل أثناء نومه، لكن في ساحة المعركة تختفي كل هذه الهواجس ولا يفكر أحدنا إلا في إنقاذ المصابين حتى لو أدى ذلك إلى أن نضحي بأنفسنا)).
وصمت السرحي ليسترجع ذكريات المواقف التي حمل فيها روحه على كفه فقال: ((كثيرة تلك المواقف التي كنت أتوقع فيها ألا أعود إلى أهلي إلا محمولاً على الأكتاف، فعندما تعرض حي الزيتون في مدينة غزة لاجتياح من قبل الجيش الإسرائيلي، سقط عدد كبير من الجرحى في الشوارع. وكان أحدهم لا يبعد سوى أمتار قليلة جدا إحدى الدبابات الصهيونية، فاضطررت أن أزحف على بطني ما يزيد عن 150 متراً كي أصل إليه، مع أن زميلي نصحني بألا أحاول لأنه ظن أنني سأقع حتماً فوقه جريحاً أو شهيداً قبل أن أنقذه، لكن بفضل الله ورحمته استطعت أن أصل إليه وأنقذه دون أن أتعرض للإصابة)).
ثم سكت السرحي هنيهة ليكمل: ((لكن عندما عدت إلى البيت وشريط ما حدث يمر أمام عيني لم أصدق أنني استطعت أن أفعل هذا دون أي خوف أو تردد، وإن كان منظر أشلاء الشهداء التي كنت أحملها ما زال ماثلاً أمام عيني حتى هذه اللحظة وأشعر بحرارتها)).
وحول طبيعة مشاعره عندما يخرج لمواجهة الأحداث ويعود منها، أضاف كمن يصارع الموت: ((عندما أخرج من المنزل أودع أهلي وكأنني استشهادي فربما لن أعود ثانية، أما عندما نعود من موقع الأحداث فأول شيء نفعله يهنئ كل واحد منا الآخر على السلامة ونأخذ بعضنا بعضاً بالأحضان. وعندما أعود إلى المنزل أقبل يد أمي وأبي على سلامة العودة))، وقاطعه د. بردويل قائلاً: ((لا شك أن ضابط الإسعاف يواجه الموت في كل لحظة، خاصة وأن سيارات الإسعاف معرضة للخطر، لذلك هناك عدد من رجال الإسعاف تركوا هذه المهمة لأنهم لم يستطيعوا تحمل منظر الأشلاء والدماء، لأنها مهنة تحتاج إلى جرأة وشجاعة وعقل راجح يستطيع أن يتدبر أمره في أرض الأحداث)).
حملت رأس ابن عمي
أما ضابط الإسعاف عزمي أبو دلال فكانت تجربته أشد رعباً، ولا يستطيع العقل البشري تحملها والتي رواها لنا أحد زملائه الذي قال ((كنا جلوساً في دائرة الإسعاف والطوارئ نتسامر، وفجأة جاءتنا أنباء عن اجتياح جيش الاحتلال لحاجز التفاح في خانيونس، فخرجنا بسرعة البرق، خاصة وأن عائلة زميلي أبو دلال تقطن تلك المنطقة. وعندما وصلنا إلى هناك تفاجأنا بأن منزل زميلي ومنازل عدد من أقاربه قد دمرت تماماً. فأخذنا ننقذ الجرحى والمصابين وننقلهم إلى سيارة الإسعاف، دون أن ننظر من هو المصاب. وعندما عدنا إلى المستشفى وأنهينا عملنا أوشك زميلي أن ينهار عندما تخيل أن الرأس الذي حمله ربما كان رأس أحد أقربائه. فأخذ يجري إلى ثلاجة الموتى ليجد نفسه قد حمل رأس ابن عمه حسن، الذي فصل عن جسده وارتفع إلى العلا شهيداً، وهو يصرخ ويقول لقد كنت أتحدث إليه قبل دقائق والآن أنا أحمل رأسه؟!)).
ولا أنكر أنني غرقت في بحر من صور الدماء وأنا أحاول أن أزيح هذا المنظر من أمام عيني كيف لرجل أن يحمل رأس ابن عمه؟! ولم ينقذنا من هذه الصور إلا صوت د. البردويل مقاطعاً يقول ((ربما قصة أبو دلال حصلت معي ولكن بشكل أشد وحشية، حيث اضطررت أن أحمل ابن عمي ينزف دماً أثناء اجتياح جيش الاحتلال لمدينة خانيونس، رغم أنني كنت على اتصال معه ليكمل لي بناء منزلي، ولكني تفاجأت به مصاباً ملقى أمامي)).
العجز عن الإنقاذ
أما عن أصعب المواقف التي يتعرض لها ضباط الإسعاف أكد البردويل أن أصعبها وأشدها ألماً على النفس عندما يعجز ضابط الإسعاف عن إنقاذ أحد المصابين، كما حدث أثناء اجتياح جيش الاحتلال لمدينة رفح، فقال ((أثناء هذا الاجتياح، منع جيش الاحتلال سيارات الإسعاف من القيام بعملها نهائياً، واضطررنا إلى الاكتفاء بتقديم النصائح والإرشادات حول كيفية الإسعافات الأولية عبر الهاتف. وكان أشد هذه المواقف ألماً ما حدث لنا مع إحدى العائلات عندما أصيب اثنان من أفرادها أثناء وجودهم على سطح المنزل، فاتصل بنا الأب عبر الهاتف لإنقاذ أطفاله، لكننا لم نستطع الوصول إليهم لأن جيش الاحتلال منع سيارات الإسعاف من الاقتراب من البيوت. وأخذنا نقدّم الإرشادات الطبية للوالد الجرحى علّه يفلح في إنقاذ أبنائه، ولكن ما هي إلا ساعة أو أقل حتى اتصل هذا الوالد وأخذ يتكلم بشكل هستيري ((لقد ماتت البنت حسبي الله ونعم الوكيل)).
وسكت البردويل بعد أن خنقته العبرات وهو يسترجع هذا الحدث المؤلم ((وبعد فترة وجيزة اتصل هذا الوالد ثانية، وأخذ يصرخ لقد أصيب طفلي ارحموه واتقوا الله، ولكن لا حول لنا ولا قوة. حاولت أكثر من سيارة إسعاف الوصول إليهم لكنها لم تفلح. وإذا بمأساته تكرر مرة ثانية ويلحق الفتى بأخته شهيداً)).
اللباس الأبيض
ربما كانت الجريمة الأكثر بشاعة ضد طواقم الإسعاف عندما يغرق اللباس الأبيض بدم صاحبه ليرتفع شهيداً إلى ربه أو جريحاً في المستشفى التي يعمل فيها، ليرقد بجانب من أنقذهم مثل ما تعرض له د. سليمان خليل في مخيم جنين يوم 4 آذار/مارس 2002 حيث قتله جيش الاحتلال أثناء محاولته إنقاذ حياة طفلة صغيرة جريحة.
لم تكتفِ قوات الاحتلال بقتل الدكتور سليمان، بل منعت سيارات الإسعاف الأخرى من محاولة إنقاذه؛ حيث أطلقت عليها النار مما أدى لإصابة خمسة من رجال الإسعاف وهم: محمود السعدي، محمد العية، إبراهيم ياسين، محمود أسعد، ساهر بشارات، والمتطوع طاهر الصانوري.
ولم تكن الجريمة التي ارتكبت بحق مدير مستشفى اليمامة الدكتور الصيدلاني أحمد نعمان صبيح (38 عاماً) في بيت لحم أقل بشاعة، حيث اغتالته قذائف الإرهاب الصهيوني ظهر الجمعة 8-3-2002 ليرتقي شهيداً.
وتكررت الصورة بمشاهد لا تقل فظاعة في مدينة طولكرم حينما وجهت طائرات ((الأباتشي)) الأمريكية الصنع نيران أسلحتها الرشاشة باتجاه سيارة تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني واغتالت كلاً من: كمال عبد الرحمن سالم (36عاماً) وهو ممرض بوكالة الغوث الدولية، وإبراهيم محمد علي أسعد (25 عاماً) ويعمل سائق إسعاف في جمعية الهلال الأحمر في طولكرم. كما استشهد سائق السيارة إبراهيم أسعد، وأصيب كل من الممرض محمود البعجاوي في الرأس، والممرضة صفية البلبيسي، وهما يعملان بجمعية الهلال الأحمر، عندما أطلقت قوات الاحتلال النار عليهم بتاريخ 8/3/2002.