التلفزة وتاريخها
الحياة
حتى الآن يبدو المشهد التلفزيوني وكأنه مشهد عام يضم في أرجائه كل شيء، من أكثر الفنون شعبية، الى أكثرها طليعية – حتى وإن كانت هذه الأخيرة نادرة -، ومن السياسة الى الاقتصاد، ومن النشاطات الاجتماعية الى الحوارات السياسية وغير السياسية. السينما حاضرة، والمسرح حضر في أزمان قديمة ويحضر اليوم وإن كان في شكل أكثر تقتيراً. الرياضة حاضرة والبورصة كذلك، للأطفال عالمهم على الشاشة الصغيرة وللأسرة عالمها. وفي مجال الطبخ والتجميل تعتبر الشاشة الصغيرة استاذة حقيقية. وإذا كان للسياحة والعمران مكانهما بل شاشاتهما، فإن الثقافة لها شاشاتها ايضاً. لا يمكن لأحد ان يشكو انه فكر، يوماً، في شيء، أو في نوع من أنواع النشاط إلا ورأى له صدى على الشاشة الصغيرة. بل حتى الناس العاديون صاروا صوراً متلفزة، بحيث ان النبوءة التي قالها اندي وارهول ذات يوم وفحواها ان كل انسان بات من شأنه ان يكون نجماً في زمننا هذا ولو لربع ساعة من الزمن، هذه النبوءة صارت تحصيل حاصل.
إذاً... كل شيء صار موجوداً على الشاشات الصغيرة، فضائية كانت أم أرضية، رسمية أم تجارية أم بين بين. كل شيء، بحيث يبدو ان التلفزة لم تنس شيئاً لتصبح له حياة بالواسطة أو تقريباً لم تنس شيئاً. لأنها، أي التلفزة، في خضم اهتمامها بابتلاع كل ما على وجه الحياة وفي صورة الكون وتحويله الى صور، وإلى صور مؤرشفة بالأحرى، تعرض مرة ومرات لتعيش في ذاكرة التلفزة الى ابد الآبدين، يبدو انها نسيت شيئاً واحداً: التلفزة.
أجل، ليس هناك في الأمر خطأ مطبعي. ما يغيب عن الشاشات الصغيرة هو التلفزة نفسها: تاريخها، ماضيها، ما يحدث حتى في حاضرها، وما يظهر أو يختبئ من اخبارها. لا نعني بهذا طبعاً ان بعض المحطات لم يحاول، ولا ان ثمة من المحطات، بسبب الفقر لا عن سياسة مقصودة، بين الحين والآخر، استعادة قديمها تبثه ما يخلق حنيناً لطيفاً – وهذا، في شكل عام، حال المحطات الرسمية الفقيرة عادة نسبياً – لكننا نعني ان المادة التلفزيونية، لم تكتشف بعد، وكما يجب، حتى الآن بوصفها مادة قادرة على ان تكون جذابة. وتاريخ التلفزة لم يُلتفت إليه، بعد، بوصفه جزءاً من التاريخ الاجتماعي العام، فيقدم على هذه الشاكلة.
حتى في هذا الإطار، نعترف انه كانت هناك دائماً محاولات، نجحت في حينها، كما حدث للبرنامج الرائع الذي كان مارسيل جوليان، يقدمه على التلفزة الفرنسية، لكنها سرعان ما أجهضت على رغم نجاحها. وربما لأن التلفزة – مثل بعض السياسيين العرب المخضرمين-، لا تريد ان تقر بأن... جزءاً من تاريخها على الأقل، صار جزءاً من التاريخ، وأن لا ضير في عرضه والحديث عنه. أو ربما لأية اسباب اخرى.
مهما كان السبب من المؤكد ان برامج منتظمة وذكية عن تاريخ التلفزة، قد تبدو اليوم، إن حققت، قادرة اكثر من اية برامج اخرى على اجتذاب الجمهور وإفادته، لأن الحقيقة الناصعة، اليوم، تقول ان تاريخ التلفزة في زمننا هو تاريخ الناس، كما ان تاريخ الناس بات هو هو تاريخ التلفزة.