الشهيد القسامي القائد بشار العامودي أحد أهم أركان "لوجستيي" القسام في شمال الضفة

قفز الجنرال "يعقوب بيرى" (رئيس الشاباك) من فوق كرسيه فَرَحاً وهو يسأل: هل أنت متأكد مما تقول؟ فيأتي الجواب من الطرف الآخر بالإيجاب، ليتحول مكتب يعقوب في لحظة إلى خلية من النحل، وترتفع حرارة الاتصال في مقر رئاسة الأركان وقيادة المنطقة الوسطى، ولكن ما الموضوع؟



لقد شاهد أحد المجرمين المرتبطين بجهاز الشاباك، المطاردين القساميين الثلاثة: ( يحيى عياش، وعلي عاصي، وبشار العامودي) يدخلون إلى منزل مهجور يعود لعائلة "جاد الله" في حارة الياسمينة بالبلدة القديمة من مدينة نابلس.

فالمهندس يحيى عياش: المطلوب رقم واحد للقوات الصهيونية، وعلي عاصي: ذراعه اليمين، والشهيد بشار العامودي: أحد أهم أركان "لوجستيي" كتائب القسام في شمال الضفة ومساعدي العياش.



كان ذلك في نحو الساعة الثانية من فجر يوم الاثنين الموافق 11يوليو /تموز 1994 حيث فرضت القوات الصهيونية نظام حظر التجوال على مدينة نابلس وقطعت خطوط الهاتف إيذاناً بانتشار نحو ألف جندي من قوات المظليين والوحدة السرية الخاصة (دفدفان) بالتعاون مع أفراد من جهاز الشاباك.



طالب قائد الوحدات الصهيونية عبر مكبرات الصوت المجاهدين الثلاثة بالاستسلام، فردوا بوابل من نيران الأسلحة الأوتوماتيكية، وكانت الخطة أن يغطي المجاهدان العامودي وعاصي انسحاب المهندس عياش، فاشتبك المجاهدان مع القوات المهاجمة التي حاولت اقتحام المنزل في معركة ضارية استمرت حتى الساعة الرابعة صباحاً.



وطبقاً لما أفاد به شهود عيان من سكان الحي، فقد قُتل ضابط صهيوني على الأقل، وأصيب آخرون بجروح متفاوتة واستغل المجاهدون فترة الهدوء وإعادة تجميع قوات الاحتلال بالتغطية على مغادرة المهندس للمنزل. فانسحب يحيى دامع العين على فراق أخويه اللذين أصرا بشدة عليه بتنفيذ هذا الأمر لما يعرفانه من حاجة القساميين لهذه الكفاءة العلمية المبدعة.

أما في الطابق الثاني من المنزل المحاصر فقد تحصن علي وبشار، واستمر دوي الرصاص وانفجارات القنابل اليدوية حتى الساعة السادسة والنصف صباحاً. لكسر شوكة المجاهدين.



وبدون سابق إنذار قصفت قوات العدو الطابق الثاني بالصواريخ المضادة للدبابات، ثم قامت وحدات (دفدفان) الخاصة والتي رابطت على أسطح المنازل المجاورة بإمطار الطابق الثاني بوابل من الرصاص مستخدمة الأسلحة الأوتوماتيكية. وبعد إخراج جثتي الشهيدين عن طريق احد الجيران أطلق الجنود النار عليهما بشكل وحشي. كما شوهد أفراد الجيش والوحدات الخاصة يطلقون النار بالهواء ابتهاجاً ويرقصون ويتصافحون مهنئين أنفسهم على هذا الإنجاز.



ميلاد القائد القسامي:

ينتسب قائدنا القسامي البطل بشار حسني محمد صالح العامودي لعائلة العامودي إحدى أعرق عائلات مدينة نابلس، والتي تنحدر من حضرموت ويعود سبب التسمية، لحمل أحد أجداده راية جيش صلاح الدين الأيوبي المرفوعة على العامود.

بين خمسة من الإخوة واثنتين من الأخوات ولد شهيدنا القسامي وكان رابعهم جميعاً، وفي مدرسة ابن الهيثم في مدينة نابلس درس مرحلته الابتدائية والإعدادية، لينتقل لمدرسة العامرية ليكمل مرحلته الثانوية.



نهل شهيدنا تعليمه الديني في مسجد الخضرا على يد الداعية الشيخ المربي الفاضل ماهر الخراز، وهناك تعلم القرءان والسنة والسيرة، وأذهلته بطولات صحابة رسول الله في الدفاع عن الإسلام لتترك في قلبه الكثير من الحماسة والقوة نحو العمل على إعادة هذا الدين لماضيه التليد.



اعتقالاته:

كان بشار يمتلأ حماساً وحباً للجهاد، فقد اعتقل مبكراً وهو في الثالث الإعدادي في سن الرابعة عشرة، بتهمة إلقاء الحجارة على الجيبات الصهيونية، ليحاكم محاكمة عسكرية ويحكم عليه بالسجن إدارياً لمدة ستة اشهر، ودفع غرامة قدرها 200 ديناراً أردنياً، ومع انطلاقة الانتفاضة في 8/12/1987 كان بشار أول فتيان حية انخراطا في نشاطاتها، تحت لواء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي انطلقت مع شرارة الانتفاضة الأولى، وفي أول إضراب تجاري تفرضه حماس، كانت أول إصابة يصاب بها بشار، ففي 8/7/1988، أعلنت حركة المقاومة الإسلامية حماس عن أول إضراباتها، فوقف بشار مع مجموعة كبيرة من إخوانه لفرض الإضراب على التجار، إلا أن اقتحام القوات الصهيونية للمدينة كان مباغتاً وفي يوم الإضراب نفسه، فكان شبان حماس لهم بالمرصاد، وقاموا برشقهم بالحجارة، وبدأت القوات الصهيونية بإطلاق النار بشكل عشوائي على المتظاهرين، لتأخذ رصاصة من نوع "دمدم" طريقها إلى فخذ بشار الذي سقط على الأرض بعد أن فتَّتت عظام الفخذ، لينقل بشار إلى مستشفى المدينة وتبقى رجله حبيسة الجبس لأكثر من سنتين، إلا أن ما أصابه لم يكن ليثنيه عن هدفه الذي أراد في إكمال طريق الجهاد، حباً في الاستشهاد، فقد اعتقل في 22/4/1991 لمدة عشرين شهراً بتهمة علاقته بالعمل العسكري، ليخرج في 9/3/1993، وهناك ارتبط بأحد الأخوات الفاضلات من عائلة "هواش"، في شهر 10/1994 ليرزقه الله بطفلة ولكن بعد أن غادر بشار الدنيا بشهرين، سميت " براءة".



"لوجستي" عملية العفولة:

بعد أن قام المجرم "جولدشتاين" بارتكاب مجزرة الحرم الإبراهيمي بدأت كتائب الشهيد عز الدين القسام بالتجهيز والإعداد لتنفيذ الرد بعملية استشهادية في "العفولة"، حيث كلف المهندس أخاه بشار العامودي نقل الأدوات والسيارة التي تم الاستيلاء عليها من داخل المناطق المحتلة عام 1948 إلى "قباطية" قضاء جنين لتجهيزها للعملية، فقام المجاهد بشار العامودي بتسليم السيارة للمجاهدين: أمجد اكميل وأحمد أبو الرب، اللذين توليا ترتيب الدخول بها إلى مدينة "العفولة". وأما المجاهد رائد زكارنة فقد تطوع لقيادة السيارة وتنفيذ الهجوم الاستشهادي، وبعد أن تم تنفيذ العملية الاستشهادية، وحقَّتت نجاحها الكبير، قامت القوات الصهيونية بعملية مسح شامل لمنطقة جنين لتعقل بعض أفراد الخلية القسامية، وبعد تحقيق مضني تم الاعتراف على المجاهد بشار العامودي ودوره كحلقة وصل بين المجموعة والمهندس، غادر المهندس وإخوانه بشار وأمجد وأحمد ومحمد قباطية عائدين إلى نابلس، حيث انضموا إلى ركب المطاردين مع القائد القسامي علي عاصي.



مطاردته:

كل هذا وذوو العامودي لا يعلمون عن جهاده شيئاً، إلا أن القوات الصهيونية كانت قد وضعت بشار العامودي على رأس مطلوبيها في منطقة نابلس، وكان الكابتن "شادي" يَعتبر إن اعتقال أو اغتيال بشار أولى أولوياته، أما بشار فقد أخبر ذويه أن كل من يسأل عنه أخبروه أني ذهبت للتجارة، وهل من تجارة أعظم من التجارة مع الله؟!!.



وفي 22/4/1994 بتمام الساعة الثانية ليلاً كان الكابتن شادي قد جهز أفضل قواته ليضرب حصاراً محكماً على الحي الذي يسكنه بشار، ليداهم منزله بعدها بدقائق، بشار الذي كان في المنزل باغته الاقتحام رغم انه كان مستيقظاً على درجات منزله، اقتحمت القوات الصهيونية المنزل، أما بشار فقد صعد على سطح منزله ليتدلى في احد خزانات المياه رغم برودة الجو، استمرت عملية التفتيش الدقيقة عدة ساعات بحثاً عنه، وبعض الجنود يصعدون إلى سطح المنزل ويبدأون بفتح الخزانات، بشار يأخذ نفساً عميقا بعد أن أحس أن أصوات أقدام الجنود بدأت تقترب منه، فتح الجنود الخزان وسلط احدهم ضوء مصباحه داخل الخزان الذي يختبئ به بشار، ولكن ما ظنك برجل باع نفسه لله، وبقي بشار يدعو ربه" اللهم احفظني حكما حفظت يونس في قلب الحوت" حتى خرج الجنود دون العثور على شيء، وهناك ودَّع بشار والديه وخرج ليلتحق بركب المطاردين القساميين الكبار علي عاصي ويحيى عياش، إلا أن القوات الصهيونية لم تكف يومياً عن اقتحام منزل ذويه على مدار ثلاثة اشهر اعتقلت خلالها زوجته وإخوانه كوسيلة للضغط عليه، إلا أن صبر ذويه واحتسابهم الأجر من الله كان سيد الموقف، أما بشار فلم يعد إلى منزله منذ لك اليوم.



استشهاده:

بعد أن دخل المجاهدون الثلاثة يحيى عياش، وعلي عاصي، وبشار العامودي، إلى منزل عائلة جاد الله في حي الياسمينة، يوم الاثنين الموافق 11يوليو (تموز)، 1994، كانت القوات الصهيونية التي تلقت خبر دخولهم للمنزل على أهبة الاستعداد لتطبق حصارا مشددا على البيت، وبعد ساعات من محاولة إثناء القوات الصهيونية المجاهدين عن خوض اشتباك مسلح ليسلما نفسيهما حيّين للقوات الصهيونية، إلا إن المجاهدين اللذين استقبلا موعد استشهادهما بقلوب راضية بقضاء الله، خاضا الاشتباك المسلح سقط فيه العديد من الإصابات والقتلى في صفوف القوات الصهيونية، لتقوم القوات الصهيونية بقصف المجاهدين: علي عاصي، وبشار العامودي وهما صائمين، بقذائف "الانيرجا"، ليصاب بشار في الجهة اليمنى من وجهه، أما جنازتة، فبالرغم من أن القوات الصهيونية منعت أي من المواطنين المشاركة في تشييعها والتي كانت في الساعة الثانية ليلاً، بفرضها حظرا للتجوال باستثاء عدد قليل من أسرته، إلا أن رفاقه في مسجد الخضرا كسروا الحظر وشارك منهم العشرات مودعين بشار، ودموعهم تبلل وجناتهم على رحيله، ولكن عزاءهم قول الشاعر:



إن لم نلتقي في الأرض يوماً وفرق بيننا كأس المنون

فموعدنا غداً في دار خلد بها يحيى الحنون مع الحنون ....